خطاب النوع الاجتماعي وتحديات الأسرة المعاصرة: رؤية نقدية من منظور قيمي
بقلم د.محمد ممدوح عبدالله
رئيس قطاع تطوير الجمعيات الاهلية بمؤسسة مصر الخير
في السنوات الأخيرة، برز مفهوم "النوع الاجتماعي" (الجندر) كمصطلح محوري في العديد من الأدبيات الحقوقية والتنموية، حيث يُقدّم على أنه أداة لفهم الأدوار الاجتماعية بعيدًا عن الحصر البيولوجي للجنسين. وبينما يحمل هذا الخطاب وعودًا بتحقيق العدالة والمساواة، إلا أن تطبيقاته في بعض السياقات، خاصة في المجتمعات العربية، أثارت نقاشًا واسعًا حول تأثيراته على بنية الأسرة والعلاقات بين أفرادها.
(1) الجندر والأسرة: إشكالية التأويل لا المفهوم
يُروَّج في بعض الخطابات لمقولة أن الأدوار الأسرية التقليدية ما هي إلا "بناء اجتماعي" يمكن تفكيكه أو إعادة صياغته. وبالرغم من أن هذه الرؤية قد تسهم في تسليط الضوء على جوانب من عدم العدالة في بعض الأدوار المفروضة، إلا أن تجاوز الفروق الفطرية أو البيولوجية بين الرجل والمرأة يؤدي أحيانًا إلى:
•اضطراب النماذج المرجعية للأبوة والأمومة، ما ينعكس سلبًا على استقرار الأبناء النفسي والاجتماعي.
•تصادم الأدوار داخل الأسرة، حيث يتحول مبدأ التكامل إلى حالة من التنافس أو الشك المتبادل.
•الترويج لنماذج بديلة للأسرة لا تتماشى مع البنية الثقافية والاجتماعية السائدة في مجتمعاتنا، ما يؤدي إلى زعزعة منظومة القيم المشتركة.
(2) بين النقد والتقويم: نحو فهم متوازن للجندر
لا يمكن إنكار وجود تحديات حقيقية تواجه المرأة في بعض المجتمعات، كضعف التمكين الاقتصادي أو التمثيل السياسي أو التوزيع غير العادل للأدوار. لكن الاستجابة لهذه التحديات يجب ألا تكون من خلال:
•إنكار الفروق الطبيعية التي خلقها الله وجعلها أساسًا للتكامل لا التنافس.
•فرض نماذج جاهزة أو مُستوردة من سياقات ثقافية مغايرة دون مراعاة للخصوصيات الاجتماعية والدينية.
•تحويل العلاقة الأسرية إلى صراع أدوار، بدلًا من تعزيز التعاون والمشاركة.
(3)الرؤية الإسلامية: تكامل لا تشابه
يقدّم الإسلام تصورًا متوازنًا للعلاقات الأسرية والاجتماعية، يقوم على:
•التكامل في الوظائف والأدوار، كما في قوله تعالى:
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228.
فالدرجة هنا تكليفية تتعلق بالمسؤولية والرعاية، لا تفوقًا قيميًا.
•العدالة لا التماثل، فحقوق المرأة في الإسلام تشمل التعليم، والعمل، والملكية، والمشاركة في الشأن العام، مع الحفاظ على خصوصيتها الفطرية.
•الأسرة كوحدة متكاملة تقوم على المودة والرحمة، لا على محو الفروق أو إلغاء الأدوار.
(4)نحو خطاب بديل يُعزز التماسك الأسري
المطلوب ليس رفض المفاهيم الحديثة جملة وتفصيلًا، ولا الانغلاق عن الحوار العالمي حول قضايا النوع والعدالة، بل تقديم خطاب بديل:
•ينطلق من ثقافتنا المحلية ويعزز قيم التعاون والتوازن.
•يقر بوجود تحديات فعلية لكنه يرفض الحلول القطيعية التي تؤدي إلى تفكك الأسرة.
•يعيد بناء أدوار الرجل والمرأة في ضوء مستجدات العصر، دون إهدار للثوابت القيمية والدينية.
خاتمة
إن مقاربة مفهوم الجندر تحتاج إلى وعي نقدي يُفرّق بين السعي الحقيقي لتحقيق العدالة، وبين الذوبان في نماذج قد تؤدي إلى اضطراب بنية المجتمع والأسرة. وفي ظل التحولات الاجتماعية المتسارعة، تبقى الرؤية المتوازنة التي تراعي الخصوصية الثقافية والدينية، وتستند إلى قيم التعاون والتكامل، هي الأجدر بالحفاظ على تماسك الأسرة وبناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية.