المركز الإعلامي - المقالات


                                                                                        article image

الأخضر ليس رفاهية: التحول إلزامي للمجتمع والمؤسسات الأهلية نحو الاستدامة

الأخضر ليس رفاهية: التحول إلزامي للمجتمع والمؤسسات الأهلية نحو الاستدامة

 

إعداد: د. محمد ممدوح عبدالله

رئيس قطاع تطوير الجمعيات _مؤسسة مصر الخير

 

في ظل مشهد عالمي ترصده المنظمات المعنية بالمناخ، حيث تسجل درجات الحرارة أرقاماً قياسية متتالية، وتتصاعد وتيرة الكوارث الطبيعية، وتنضب الموارد بسرعة ما ينذر بالخطر، فلم تعد "الممارسات الخضراء" مجرد خيار أخلاقي أو اتجاه عصري بل أصبحت ضرورة وجودية، وسبيلاً وحيداً لضمان استمرارية الحياة بكرامة للأجيال الحالية والقادمة. هذا التحول ليس ترفاً، بل هو استجابة إجبارية لواقع مفروض بتداعيات التغير المناخي الحادة وشح الموارد الطبيعية المتزايد.

توطين الاستدامة: من الأهداف العالمية 2030 إلى الواقع المحلي:

لا ينفصل هذا التوجه عن الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) التي تضع البيئة والاستدامة في صلبها، وعلى المستوى القومي، تتبنى مصر هذا المسار بوضوح عبر "رؤية مصر 2030"، التي تجعل من البعد البيئي وحوكمة الموارد الطبيعية ركيزتين أساسيتين للتنمية الشاملة. إنه توجه عالمي لا رجعه فيه، يهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من كوكبنا المثقل.

 

ولكي ينجح هذا التحول، يجب أن يغزو الممارسات الخضراء كل جوانب حياتنا:

 

1)    في الحياة اليومية للفرد :

 

·       الترشيد: تقليل استهلاك المياه، والطاقة

·       إدارة النفايات: الفصل والتصنيف من المصدر، إعادة التدوير، التسميد المنزلي، تجنب المنتجات ذات التغليف الزائد.

·       تنمية الاستهلاك الواعي : اختيار المنتجات المحلية والعضوية والمستدامة، تقليل استهلاك اللحوم، تجنب المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد.

2)    الحياة الاقتصادية:

 

·       تعزيز الاقتصاد الدائري: تحويل النفايات إلى موارد، تصميم منتجات قابلة للإصلاح وإعادة التدوير، نماذج تأجير المنتجات بدلاً من تملكها.

·       الاستثمار الأخضر: توجيه التمويل نحو مشاريع الطاقة المتجددة، كفاءة الطاقة، الزراعة المستدامة، التكنولوجيا النظيفة.

·       معايير ESG:دمج المعايير البيئية (Environmental) والاجتماعية (Social) والحوكمة (Governance) في تقييم الشركات وأدائها وجاذبيتها للاستثمار.

·       الوظائف الخضراء: نمو قطاعات جديدة توفر فرص عمل في مجالات الطاقة النظيفة، إدارة النفايات، الزراعة المستدامة، السياحة البيئية.

 

3)    في مجال المهن والتشغيل:

 

·       المهارات الخضراء: أصبحت المعرفة بالاستدامة وكفاءة الطاقة وإدارة الموارد مطلوبة في جميع القطاعات تقريباً (الهندسة، العمارة، التصميم، الزراعة، الصناعة، الخدمات اللوجستية، التعليم، الصحة).

·       المسؤولية المهنية: على كل مهني دمج البعد البيئي في عمله، سواء كان مهندساً يصمم مبانٍ موفرة للطاقة، أو طاهياً يقلل الهدر، أو مديراً يطبق سياسات مستدامة في مكتبه.

4)    الحياة الثقافية:

 

·       التربية البيئية: دمج مفاهيم الاستدامة في المناهج الدراسية منذ الصغر.

·       الإعلام والفنون: تسليط الضوء على القضايا البيئية وعرض نماذج إيجابية للممارسات الخضراء، استخدام الفن لنشر الوعي.

·       القيم المجتمعية: تعزيز قيم المسؤولية تجاه البيئة، والعيش البسيط، والاستهلاك الواعي كجزء من الهوية الثقافية المتجددة.

 

المنظمات الأهلية: قاطرة التغيير المجتمعي نحو الأخضر:

تواجه مجتمعاتنا، وخاصة في منطقتنا العربية التي تعاني من شح الموارد المائية وتأثيرات التغير المناخي المتفاقمة، تحديات جسامًا. وتضيف الظروف الإقليمية المضطربة طبقة أخرى من التعقيد. وفي هذا السياق، يصبح كل جهد بنّاء، وكل ممارسة خضراء، وكل منظمة أهلية تتحول نحو الاستدامة، لَبِنة حيوية في بناء صمود مجتمعاتنا وتقليل الآثار المدمرة لهذه التحديات.

من هنا يأتي الدور المحوري للمنظمات الأهلية ، والتي يُقدر عددها بعشرات الآلاف (تشير بعض التقديرات إلى وجود أكثر من 36000 منظمة أهلية في مصر وأكثر من 370000 في مختلف الدول العربية أرقام تقريبية تشير إلى حجم القطاع الهائل هذه المنظمات، بوصفها أقرب إلى المجتمع وأكثر مرونة في الاستجابة، مطالبة ليس فقط بتوعية المواطنين، بل أيضاً بأن تكون قدوة وداعمه لترسيخ  عملية تطبيق الممارسات الخضراء بدا من إدارتها الداخلية ومشروعاتها وبرامجها وحتي داخل المجتمع في ممارساتها  وهذا يتطلب تطويراً جذرياً لممارساتها لمواكبة هذا التحول العالمي.

 

المركز العربي لاستدامة العمل الأهلي: داعم أساسي للتحول الأخضر للمنظمات الأهلية.

إدراكاً لهذه المسؤولية الجسيمة والفرصة التاريخية، يبذل المركز العربي لاستدامة العمل الأهلي جهوداً ريادية لدعم المنظمات الأهلية في رحلتها الخضراء، ليس في مصر فحسب، بل على المستوى العربي، من خلال حزمة متكاملة من الوثائق التوجيهية والخدمات الداعمة:

1)    اطلق الميثاق العربي للعمل المناخي للمنظمات الأهلية: يضع إطاراً عربياً موحداً لالتزام المنظمات بمكافحة التغير المناخي، ويستهدف حثها على دمج العمل المناخي في استراتيجياتها، وتبني ممارسات خضراء، والضغط لسياسات داعمة، وتعزيز التنسيق العربي في هذا المجال الحيوي.

2)    اطلاق ميثاق التطوع الأخضر: يرسم معايير لتفعيل دور المتطوعين في الأنشطة البيئية والمناخية، ويستهدف تنظيم وتوجيه طاقات المتطوعين نحو مشاريع الاستدامة، وبناء قدراتهم في هذا المجال، وإضافة بُعد بيئي قوي لثقافة التطوع العربية.

3)    إطلاق وثيقة "رؤية مجتمعية لتنمية وتطوير قطاع المنظمات الأهلية في مصر": تمثل خارطة طريق طموحة، لا تضع الاستدامة المالية فقط نصب عينيها، بل تؤكد على الاستدامة البيئية والمؤسسية للمنظمة كأحد أركان التحول نحو الاحتراف والاستدامة الشاملة في العمل الأهلي المصري.

4)    إطلاق مواصفة المنظمات الأهلية الخضراء: تقدم معايير عملية قابلة للقياس لتقييم وتصنيف المنظمات بناءً على التزامها البيئي في عملياتها (إدارة الطاقة، المياه، النفايات، المشتريات، النقل) وفي برامجها ومشروعاتها.

5)    إطلاق البرنامج الإقليمي للتبادل التنموي: يسهل تبادل الخبرات وأفضل الممارسات الخضراء بين المنظمات الأهلية عربياً، تسريعاً وتيرة التعلم والتطبيق.

6)    إطلاق الحملة الإقليمية مناخ مستدام: والتي تستهدف توعية المجتمع المدني العربي بقضية المناخ والاستدامة ودورهم في تحقيقها داخل المجتمع

 هذه بعض الامثلة لمجهودات المركز العربي من حزمة من الخدمات أكثر من 19 خدمة يوفرها المركز العربي مجموعة واسعة من الخدمات الداعمة مثل التدريب، الاستشارات الفنية، أدلة إرشادية، ومنصات معرفية، وخدمات ميدانية وبرامج عمل جميعها مصممة لتمكين المنظمات من تبني الاستدامة ودعم ممارستها الخضراء بفعالية.

 

التكامل: شرط النجاح:

دعم تحول المنظمات الأهلية نحو الممارسات الخضراء لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن تعزيز التكامل والتعاون بين جميع الأطراف وعلى المستوى الإقليمي:

الحكومات: عبر سياسات تحفيزية، أطر تشريعية داعمة، وتمويل للمبادرات الخضراء.

القطاع الخاص: من خلال المسؤولية الاجتماعية البيئية، الاستثمار في مشاريع الاستدامة المجتمعية، وتبني سلاسل إمداد خضراء.

المؤسسات المالية: بتوجيه التمويل نحو المشاريع المستدامة والمنظمات الملتزمة بيئياً.

المؤسسات الأكاديمية والبحثية: بتوفير البحث العلمي التطبيقي وبناء القدرات في المجالات الخضراء.

وسائل الإعلام: بنشر الوعي وتسليط الضوء على النماذج الناجحة.

الأفراد: بالممارسة اليومية والمطالبة بالتغيير.

 

وختاما إن التحول الأخضر ليس رحلة فردية، بل هو مسيرة جماعية تتطلب تضافر الجهود. المنظمات الأهلية، بدعم من مبادرات رائدة مثل تلك التي يطلقها المركز العربي لاستدامة العمل الأهلي، مدعوة لأن تكون في طليعة هذه المسيرة. فلنعمل معاً، حكومات ومؤسسات أهلية وقطاع خاص وأفراد، من أجل غد أكثر استدامة وعدلاً. من أجل مجتمع أهلي عربي مستدام، قادر على مواجهة تحديات الحاضر وبناء مستقبل آمن للأجيال القادمة.